عهد الإصلاح السياسي و الفكري 1990-1993م

 

عهد الإصلاح السياسي و الفكري ( 1990-1993م )

 

بدأت اليمن في السنتين الأخيرتين من الثمانينيات تشهد تطورات متسارعة نحو التقارب بين شطري الوطن، بعد أن كانت العملية الوحدوية قد شهدت جموداً بعد التغيرات التي حدثت في الشطر الجنوبي من الوطن بعد أحداث 13 يناير 1986م الدموية التي أنهكت النظام الشيوعي في ( عدن ) و الحزب الاشتراكي الحاكم هناك ، و ترافق ذلك مع بدء تصدع المعسكر الشيوعي العالمي، و ظهور علامات على انهيار الاتحاد السوفيتي     والأنظمة الشيوعية الموالية له . و كل ذلك جعل ميزان القوى يميل ضد النظام الشيوعي في ( عدن ) في الوقت الذي شهد فيه (الشمال) استقراراً كبيراً وحركة تنمية جيدة قّوت موقفه في المواجهة السياسية و الفكرية مع النظام الماركسي في ( الجنوب ) .

كانت اتفاقية ( عدن ) في 30 نوفمبر 1989م أهم خطوة نحو تحقيق الوحدة التي كانت مطلبا استراتيجياً و هدفا نبيلا لليمنيين ، و إن كان هناك تحفظات على مضمون الاتفاقية أنها تعاملت مع (الجنوب) وكأنه الحزب الاشتراكي فقط، حيث تعاملت اتفاقية  30 نوفمبر 1989م  مثل غيرها من الاتفاقيات السابقة مع الحزب الاشتراكي و كأنه هو      ( الشعب ) كله و لابد من حفظ مصالحه و امتيازاته.

  كانت وجهة نظر الرئيس /على عبدالله صالح – آنذاك - أنه لابد من تقديم التنازلات حتى يوافق ( الحزب )على الوحدة ، بينما كان رأي الشيخ /عبدالله حسين الأحمر ، وآخرين معه، أن الوضع الضعيف للنظام الشيوعي في ( عدن ) و حلفائه في العالم كفيل بأن يدفعهم دفعاً للموافقة على إتمام الوحدة لأنهم بحاجة إليها بعد التطورات الخطيرة التي حدثت في الاتحاد السوفيتي و سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا بسبب انتفاضات الشعوب ضدها وفي اليمن كانت المشاعر الوحدوية متأججة، ولم يكــن النظام في( عدن ) يستطيع أن يتغافل عنها أو يضع شروطاً تعجيزية خوفاً من الشعب     والجماهير المتلهفة للوحدة و الكارهة للشيوعية و أوزارها.

 و بالرغم من الاختلافات في الرأي حول أفضل السبل لتحقيق الوحدة على أسس سليمة ، وبرغم التنازلات الكبيرة التي حصل عليها الاشتراكيون لأنفسهم و لحزبهم،  إلا أن كـل ذلك لم يكن ليعرقل تحقيق هــدف  ( الوحدة ) باعتبارها منجزاً عظيماً    وهدفاً من أهداف الثورة و الحركة الوطنية اليمنية ، وتم إعلان قيام دولة الوحدة اليمنية باسم ( الجمهورية اليمنية ) في 22 مايو 1990م في احتفال تاريخي في (عدن ) شارك فيه الشيخ /عبدالله بن حسين الأحمر الذي حرص على المشاركة في ذلك اليوم التاريخي   و مشاركة الشعب فرحته بالوحدة ، وشارك معه عدد من شباب الحركة الإسلامية         ورموزها للتأكيد على أن معارضة بعــض الأخطاء و الأساليب في عملية التوحيد لا تعني رفض ( الوحدة ) لأنها هدف إسلامي و وطني، وأما الأخطاء فسوف يتم تصحيحها من خلال العمل السياسي و القانوني.

 شهدت المرحلة الانتقالية بعد الوحدة (1990- 1993م ) ظهور عدد من المشاكل التي كان سببها بعض الأسس و الاتفاقات الخاطئة التي تم على أساسها توحيد شطري الوطن اليمني ، و كانت أهم هذه القضايا : التقاسم الثنائي للدولة بين الحزب الاشتراكي    وبين المؤتمر الشعبي العام ، و قضية الدستور التي كانت في الأساس قضية هوية دولة الوحدة  وهل هي دولة إسلامية أم علمانية ، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل قانون التعليم.

 كانت قضية التقاسم الثنائي من أخطر القضايا المؤثرة على الوطن و الوحدة ، فالاشتراكيون اعتبروا أن موافقتهم على الوحدة تمنحهم أحقية الحصول على امتيازات ابتداء من قمة الدولة حتى أصغر وظيفة ، وقــد عــارض كثيرون هذا الأمر بقيادة الشيخ/عبدالله ، و كان أخطــر نتائج هذا الأمر هو الزعم بأن الوحدة تمت مع (الحزب) الذي تنازل عن منصب ( الرئيس ) و عن أرض (الجنوب) و (دولته) من أجل الوحدة .. مع أن الواقع أثبت أن ( نائب الرئيس ) ظل يحكم بصلاحيات رئيس الجمهورية، ولم يكن يتم شئ يريده رئيس الجمهورية دون موافقة الحزب ،و فيما كان الحزب قد حصل على مناصب كبيرة في مجلس الرئاسة ومجلس النواب والحكومة وقيادة الجيش والمؤسسات الرسمية، فإن سيطرته على المحافظات الجنوبية ظلت كما هي قبل الوحدة باستثناء بعض المناصب الرسمية التي منحت لبعض المسؤولين من المحافظات (الشمالية) في إطار عملية تبادل المسؤولين و الموظفين التي تمت بالتساوي، وقد اتضحت حقيقة هذا الأمر عندما اشتدت الأزمة السياسية 1994م وتم طرد هؤلاء الموظفين و مضايقتهم، و إحكام السيطرة على كل شيء في المحافظات الشرقية والجنوبية بسهولة شديدة ، فقد ظل كل شيء كما كان في عهد التشطير : القوات المسلحة ، الأمن ، البنوك ، المؤسسات الإعلامية ، العملة إلخ ...كل شيء ظل تحت سيطرة ( الحزب ) وكأنه لم تقم وحدة و لا توجد دولة واحدة  وهذا الوضع الخاطئ كان نتيجة طبيعية لبعض الأسس غير السليمة التي قامت عليها الوحدة ، و هو ما كان يحذر الصادقون منه منذ زمان أي ألا تكون الـوحدة مع ( الحزب ) بل مع الشعب و كافة قواه الوطنية ، و كان ثمن هذا الخطأ كبيراً وفادحاً فلم تنقشع هذه الغمة إلا بعد الحرب والانفصال الفاشل و إسقاط مؤامرة العودة إلى عهد التشطير ، وهو أمر لم يتم إلا بتضحيات كبيرة و دماء غزيرة سالت وإمكانيات تدمرت حتى تتحقق الوحدة على أسس سليمة غير قابلة للفشل بإذن الله تعالى .

 والقضية الثانية التي أثارت خلافات كبيرة كانت تتعلق بمشروع دستور الوحدة،  فقد كان مفهوما أن مشروع الدستور سوف يخضع للنقاش في مجلس النواب و على المستوي الشعبي، لكن ترتيبات إقامة الوحدة فرضت أن يتم تمرير ( الدستور ) دون نقاش حقيقي مجاملة للحزب الاشتراكي بحجة تشجيعه على إتمام الوحدة ، و تفويتاً للفرصة على القوى الخارجية التي قيل أنها بدأت ( تغازل ) الحزب الاشتراكي لمنعه من إتمام مشروع الوحدة.

 تزعم الشيخ /عبدالله بن حسين الأحمر القوى السياسية و الفكرية التي كانت ترى أنه يجب تعديل الدستور قبل إقراره تلافيا للثغرات الموجودة فيه ، ولا سيما أن (الدستور) تمت كتابته وإعداده قبل سنوات طويلة (1981م) حدثت بعدها متغيرات جذرية ، وفي المقابل كان المؤيدون لإتمام الوحدة ، على أساس هذا الدستور، يرون أن معارضة الدستور قد تدفع بالحزب الاشتراكي للتراجع عن الوحدة رغم أن الأوضاع حينها و المتغيرات المحلية والعالمية كانت تجعل من المستحيل على أي حزب أن يتراجع عن الوحدة . و حدثت حينها حوارات ساخنة حول الموضوع بين ( الشيخ ) ومؤيديه و بين (الرئيس) انتهى إلى تأكيد الرئيس بأن الاستفتاء على الدستور مرتبط بالوحدة وأنه سوف يتم تعديل الدستور في المستقبل و إصلاح ما فيه من الأخطاء وقامت دولة الوحدة، وظلت مشكلة الدستور مستمرة ، و قاد ( الشيخ ) حركة المعارضة لمشروع الدستور و التفت حول هذه الدعوة عدد من الأحزاب و العلماء والمثقفين وجماهير واسعة من أبناء الشعب اليمني ، و تم تنظيم فعاليات شعبية بلغت ذروتها في المسيرة المليونية  التي توجهت شطر دار الرئاسة للتحاور مع رئيس و أعضاء مجلس الرئاسة حول ضرورة تعديل المادة الثالثة من الدستور و جعل الشريعة الإسلامية مصدر جميع القوانين بدلاً من أن تكون     (المصدر الرئيسي) ، كما تم إصدار بيانات وصدرت فتاوى ووجهت رسائل لمناشدة مجلس الرئاسة التجاوب مع المطالب الشعبية لكن الائتلاف الثنائي الحاكم أصر على موقفه الرافض لتعديل الدستور .

 كان الخلاف حول الدستور في الحقيقة هو خلاف حول مضمون و هوية دولة الوحدة بين تيارين : الأول يريد الهوية الإسلامية أن تبقي مجرد شعارات و إكليشيات مع تبني توجه خفي نحو العلمانية ، و معاداة التوجه الإسلامي و التعامل مع القوى الإسلامية على أنها قوى رجعية ظلامية كما صرح بذلك عدد من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني و جسدته الصحافة التابعة له ، و التي ظلت طوال أربع سنوات تعيد إنتاج الخطاب الإعلامي لسنوات الستينيات عن الرجعيين و الظلاميين و العملاء  والمتدينين .. وفي المقابل كان التيار الآخر يريد أن تكون الهوية الإسلامية لدولة الوحدة واضحة حقيقية تتجسد في الواقع، وفي القوانين، وفي المناهج، وفي السياسات، و لعل التاريخ اليمني استعاد في حقبة التسعينيات الأزمة نفسها التي كانت مشتعلة في حقبة الستينيات عندما كان اليساريون المتطرفون يواجهون تيار الإصلاح و السلام بقيادة الزبيري و النعمان بأنه تيار الرجعية و التخلف، بينما كان تيار الإصلاح والسلام يريد أن تكون الجمهورية ذات مضمون ديمقراطي حقيقي بدلاً من حكم الفرد ، تقوم على هدى المبادئ الإسلامية العظيمة.

 نجح الائتلاف الحاكم بين المؤتمر الشعبي العام و بين الحزب الاشتراكي اليمني في تمرير الدستور بطريقة غير نزيهة ، حيث قرروا أن نتيجة الاستفتاء ليس لها قيمة    وإنها لمجرد الاستئناس بها فقط، مما أدى إلى مقاطعة الاستفتاء من قبل القوى المعارضة للدستور ، لكن التجمع اليمني للإصلاح بقيادة الشيخ /عبدالله بن حسين الأحمر انتهج خطاً سياسياً لتعديل الدستور عن طريق البرلمان ، و ظلت القضية موضوعة في أولوياته السياسية و الفكرية حتى تم بالإجماع تقريباً تعديل الدستور في عام 1994م كما أراد     ( الإصلاح )، و لا سيما إعادة الاعتبار لموقع الشريعة الإسلامية في الدستور، و التأكيد على الحريات السياسية و خاصة التعددية السياسية و الحزبية ، و إزالة كل ما كان يطالب الإصلاح بتغييره .

القضية الثالثة التي تصدى لها التيار الإسلامي بقيادة الشيخ/عبدالله هي قضية قانون التعليم ، فقد أصر الحزب الاشتراكي على أن يمرر في مجلس النواب قانونا مجهول المصدر ليس له صلة بقانون التعليم الذي أعدته لجان الوحدة ، و كان واضحاً حينها أن الهدف هو إلغاء ( المعاهد العلمية ) التي كانت تمثل نوعا من أنواع التعليم الذي يهتم بالعلوم العربية و الإسلامية . و كان من المعروف أن اليسار اليمني منذ السبعينيات يعتبر أن ( المعاهد ) هي الخطر الأول الذي يهدد و جوده الفكري و السياسي، وظل طوال عشرين عاما يواصل حملاته الظالمة ضد المعاهد سواء من قبل اليسار في المعارضة      أو من قبل العلمانيين في أجهزة السلطة ، و كلهم أصروا على هدم هذه التجربة التعليمية الرائدة دون اعتبار للجهود التعليمية و التربوية التي صنعتها، و كان من الطبيعي أن يركز الاشتراكيون و حلفاؤهم بعد الوحدة جهودهم للقضاء على (المعاهد) ، لكن التيار المؤيد لها نظم حملات شعبية في كل المجالات لإيقاف استهداف (المعاهد) إلا أن  الاشتراكيين بموافقة ضمنية و سكوت من قبل المؤتمر الشعبي العام نجحوا في تمرير قانون التعليم المشبوه في مجلس النواب عندما كانوا يسيطرون عليه وكادت تحدث فتنة شعبية لولا أن ( الرئيس ) جمّد القانون مؤقتاً ثم جاءت أحداث الشغب 1992م والانتخابات النيابية الأولى، والأزمة السياسية و الحرب و الانفصال التي شغلت الناس عن قانون التعليم لكن كان الاشتراكيون قد نفذوا مخططهم قانونياً ثم جاء المؤتمريون و نفذوا المخطط فعليا وألغوا المعاهد العلمية بجرة قلم لدواعٍ سياسية و مكايدات حزبية بعد الانتخابات المحلية 2001 م .            

 

 

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp