الصراع حول هوية الثورة والجمهورية

 

الصراع حول هوية الثورة والجمهورية

على الرغم من أن الأستاذ/محمد محمود الزبيري لم يكن يتولى منصباً رئيسياً في النظام الجمهوري الجديد إلا أن شخصيته ودوره التاريخي النضالي ومكانته في قلوب اليمنيين ، بما فيهم المتحمسون للملكية ، كانت تجعله قطب الرحى في صنعاء ، وتلقى توجيهاته وآراؤه تجاوباً حماسياً من الجميع.

ومع مرور الزمن ظهرت خلافات عميقة حول أسلوب إدارة الدولة بين جناحين داخل الصف الجمهوري ، الأول يقوده المشير عبدالله السلال رئيس الجمهورية ويدعمه المصريون الذين جاءوا لحماية الثورة ودعم النظام الجمهوري .. والآخر يقوده الأستاذ الزبيري ومعه عدد كبير من الأحرار والضباط والعلماء والمثقفين وفي مقدمتهم الأستاذ  أحمد محمد النعمان والقاضي /عبد الرحمن الإرياني وعدد من ضباط الجيش الذين فجروا ثورة سبتمبر .

كان موضوع الخلاف بين الطرفين يدور حول رؤية كل منهما في كيفية مواجهة الحرب،  فقد كان جناح السلال يدعو إلى الاستمرار في القتال والحرب حتى النهاية فيما كان جناح الزبيري والنعمان والإرياني يرى أن الحرب ليست ضرورة قدرية ،وأنه يمكن التفاهم مع المغرر بهم من القبائل التي تساند الإمام المخلوع واستمالتها إلى صف الجمهورية والثورة من خلال الاتصال بها وبيان أهمية الثورة لهم ولأبنائهم، كما كان الخلاف يدور كذلك حول أسلوب إدارة الدولة ، وضرورة تصحيح مسار الثورة وجعلها شوروية وجماعية ، والتخلص من عقلية الفرد المتحكم بمصير كل شيء .. بالإضافة إلى التخفيف من الهيمنة التي كانت الإدارة المصرية تمارسها في اليمن لأسباب كثيرة منها عجز الحكام عن ممارسة واجباتهم ، والفراغ الشامل الذي كانت تعيشه البلاد بسبب الإرث الإمامي المتخلف واضطرار الأشقاء المصريين لملء الفراغ في كل مكان مما عزّز من سلطتهم وقبضتهم على الأوضاع ،وفي الوقت نفسه كانت المواجهة العسكرية الشرسة تعزز من السيطرة المصرية على كل شيء مما أدى إلى ظهور سياسات خاطئة وممارسات غير صحيحة نتيجة عدم الخبرة في التعامل مع العقلية والنفسية اليمنية.

وعندما اشتد الخلاف ، كان للشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر دور بارز في محاولة تهدئة الخلاف وخاصة مع جناح المعارضين بقيادة الزبيري ، وكانت وجهة نظر (الشيخ) أنه لا لزوم لاتخاذ قرارات قوية لتصحيح مسار الثورة حتى يتم تثبيت النظام الجمهوري والثورة في أرض الواقع ، لكن (الشيخ) في الأخير اقتنع برأي جناح الزبيري والنعمان والإرياني وانحاز إليهم في مواجهة الاختلالات والأخطاء والانحراف عن مبادئ الثورة ،و في الوقت نفسه ظل مستمراً في دوره النضالي العسكري وقيادة المعارك الحربية ضد أعداء الثورة والجمهورية.

وفي إطار هذا الموقف ، شارك الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر في مؤتمر عمران سبتمبر1963م الذي تبنى الدعوة لتصحيح الأخطاء والاختلالات، والتخفيف من هيمنة الحكم الفردي، وتنظيم العلاقة مع الأشقاء في مصر والحد من التدخل السيء للإدارة المصرية في اليمن في شؤون السياسة الداخلية وعندما خرج (الزبيري) من صنعاء أواخر عام 1964م ولجأ للقبائل يتجول فيها داعياً للسلام كان (الشيخ) في مقدمة المؤيدين له ولاسيما أن الزبيري أراد اتخاذ مدينة خمر قلب بلاد حاشد مركزاً لدعوته إلى السلام والتفاهم ، وتضامن معه (الشيخ) فأعلن استقالته من منصبه كوزير للداخلية بناء على طلب من (الزبيري) نفسه ، وصار (الزبيري) هو مصدر القرار والتوجيهات بالنسبة لمؤيديه من كبار المسؤولين والشخصيات التي ارتبطت بالزبيري.

وفي الفترة نفسها ، أعلن (الزبيري) في (جبل برط ) تأسيس (حزب الله ) كوسيلة من وسائل جمع كلمة اليمنيين وتوحيد شملهم ، وأداة  لتصحيح الأخطاء والممارسات باسم الثورة والجمهورية، ولإنقاذ الشعب اليمني من الفوضى والظلم والدمار.

وبدأ (الزبيري) يدعو رؤساء القبائل والعشائر والعلماء والمثقفين وأهل الحل والعقد إلى عقد مؤتمر كبير في (خمر) للتشاور وتدبير أمور البلاد والعباد والدين والدنيا.

وفيما كانت الاستعدادات تجري في (خمر) بإشراف الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر للتحضير للمؤتمر، كان (الزبيري) في (جبل برط ) يواصل تحركاته بين القبائل لدعوتهم إلى السلام والتحاور لكن أيدي الغدر والخيانة كانت تترصد للأستاذ الزبيري تريد القضاء على صوته الذي يجلجل ضد الظلم والفوضى والحرب، وقد اغتالت أيادٍ آثمة (الزبيري) في 31/3/1965م قبل أسابيع قليلة من انعقاد المؤتمر الشعبي الكبير في خمر.

أشعل اغتيال (الزبيري) الغضب الشعبي في كافة أنحاء اليمن ، وتصاعدت النقمة ضد المختلفين مع (الزبيري) وتياره الإصلاحي، واشتد الحماس للاستمرار في الطريق الذي بدأه الزبيري وخاصة فيما يتعلق بعقد مؤتمر (خمر) للسلام حيث استمرت عملية الإعداد بإشراف الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر ، ويساعده عدد من الشخصيات كالأستاذ/عبدالملك الطيب  والأستاذ/محمد الفسيل ، وقامت (حاشد) بدور الضيافة واستقبال المشاركين الذين دعاهم (الشيخ) للحضور والمشاركة في مؤتمر (خمر) نيابة عن الشهيد محمد محمود الزبيري ، وتولى أبناء حاشد ، رغم ظروفهم الصعبة وامتناع الحكومة عن مساعدتهم ، القيام بكل أعباء المؤتمر الذي حضره العلماء والمشائخ والمثقفون من كل أنحاء اليمن بل وحضره مشائخ القبائل الملكية ، فكان المؤتمر محل إجماع وطني لإصلاح الأوضاع في البلاد ، وأكد على مقررات مؤتمر (عمران) في سبتمبر1963م ، وأكد على ضرورة العمل بمختلف السبل والوسائل لإنهاء حالة الحرب وإقرار السلام ، وإنشاء جيش وطني ، وتنمية ودعم الاقتصاد الوطني ، وتصحيح الأوضاع في جميع الأجهزة والدوائر الحكومية ، وتنظيم وتحديد العلاقات مع مصر والسعي لإيقاف حالة التوتر في العلاقات مع السعودية ، كما أكد المؤتمر على ضرورة تنفيذ المطالب الأساسية التي قام عليها نهج الشهيد محمد محمود الزبيري وهي:

1- تعديل الدستور .

2- إقامة مجلس جمهوري.

 3- تكوين مجلس الشورى.

 4-إعلان قيام تنظيم شعبي شامل.

لم تستطع حركة الإصلاح بعد مؤتمر (خمر) أن تستفيد من الحماس منقطع النظير للتغيير الذي أحدثه استشهاد الزبيري وعقد مؤتمر (خمر) ، وتمكن تيار السلال والإدارة المصرية في اليمن من امتصاص غضب اليمنيين في تلك المرحلة عبر المبادرة إلى تكليف الأستاذ/أحمد النعمان بتشكيل حكومة جديدة قبل انعقاد مؤتمر (خمر) وبعد استشهاد الزبيري مباشرة ! لكن الحكومة فشلت في أداء واجباتها لأنها لم تكن تحكم شيئاً في اليمن خارج مكاتبها! وتمكن تيار السلال ومؤيديه من استعادة زمام الأمور شيئاً فشيئاً وانفجر الخلاف بين حكومة النعمان وبين الإدارة المصرية مما أدى إلى استقالة الحكومة وإلى عودة التوتر بين تيار الإصلاح والسلام وبين تيار السلال ، وحدث انشقاق آخر في الصف الجمهوري عندما شارك عدد من المشائخ الجمهوريين المستائين من الحكم الفردي في مؤتمر بالطائف 12/8/1965م بوجود عدد من المشائخ الملكيين ،حيث تم الاتفاق على قرار إنهاء النظام الملكي وإنهاء دولة السلال معاً وقيام دولة جديدة في اليمن تشمل الجميع باستثناء بيت حميد الدين والسلال، لكن تلك القرارات لم تلق إستجابة داخل اليمن، كما تراجع عنها بعض المشائخ الجمهوريين الموقعين عليها.

أدى هذا الخلاف الجديد والتصعيد الخطير داخل الصف الجمهوري إلى قيام الرئيس عبد الناصر بزيارة السعودية والاتفاق مع الملك فيصل على نفس مضمون قرارات مؤتمر الطائف ودعوة اليمنيين إلى عقد مؤتمر في (حرض) في نوفمبر 1965م لحل الأزمة اليمنية ، وكان الجانب الجمهوري قد فهم أن المطلوب هو تقريب النفوس والقلوب مع قيادات الجانب الملكي واستيعابهم في النظام الجمهوري بينما فهم الآخرون أن غرض المؤتمر هو إنهاء النظام الجمهوري  والنظام الملكي معاً وإنشاء دولة جديدة ، وقد رفض زعماء الجانب الجمهوري ذلك المفهوم ، وتصدى الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر عضو الوفد الجمهوري في المؤتمر للفكرة الجديدة وأعلن رفض إنهاء (الجمهورية) والاستعداد للدفاع عن كل حرف من حروف كلمة (الجمهورية) ، وأكد على الاستعداد للعمل والقتال والمقاومة في الجبال والوديان ، وفي الشوراع .. وفي وسط صنعاء، وبكل وسيلة حتى (الجنابي) كانت كلمة (الشيخ) حاسمة وشجعت بقية  الزعماء الجمهوريين للتمسك بمواقفهم ، وأدى هذا الموقف المتمسك بالنظام الجمهوري إلى رضوخ المصريين للأمر الواقع ، وانتهى المؤتمر إلى الفشل .

أدى فشل مؤتمر حرض - نوفمبر 1965م - وتمسك الجمهوريين بالنظام الجمهوري إلى توقع إزدياد الهجمات الملكية ، مما دفع الجمهوريين إلى البحث عن مصادر مباشرة للسلاح من الاتحاد السوفيتي ، وتولى الفريق / حسن العمري القيام بمهمة الإتصال بالروس أثناء زيارة للقاهرة لكن تحفظ (القاهرة) أوقف المشروع تماماً وأدى إلى استقالة الفريق العمري من رئاسة الوزراء بعد أن كان تيار الإصلاح والسلام قد نجح في كسب (العمري) إلى صفه .

أدت استقالة (العمري) إلى عودة القبضة المصرية على الأوضاع في صنعاء ، وعاد (السلال) في أغسطس 1966م وسط توجه قمعي ضد تيار الإصلاح ، وبدأت مرحلة من الإرهاب الداخلي والخارجي ، ففي الخارج تم اعتقال معظم وزراء ومسؤولي الحكومة اليمنية المستقيلة وعدد من كبار ضباط الجيش .. وفي الداخل حدثت اعتقالات ومطاردات قمعية للمعارضين لسياسة المشير (السلال) والإدارة المصرية . وقام الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر بدور كبير في إنقاذ المطاردين الذين كانوا يلجأون إلى منزله في صنعاء القديمة ، حيث كان يقوم بتهريبهم إلى خارج صنعاء في سيارته ومع حراسته حتى تم إخراج عدد كبير من المشائخ والمثقفين والضباط المطلوب اعتقالهم .. كما ظل (الشيخ) في صنعاء يبذل جهوده لدى القيادة المصرية والمشير السلال دفاعاً عنهم تبرئة لساحتهم ، ونجح في إخراج عدد من المعتقلين من السجن.

وفي الأخير غادر (الشيخ) صنعاء إلى (خمر) ثم رفض العودة إلى صنعاء رغم الإلحاح على عودته خوفاً من سقوط المناطق التي انسحبت منها القوات المصرية ، وتعددت الوفود الواصلة لإقناع (الشيخ) بالعودة إلى صنعاء دون فائدة ! وبسبب ذلك الرفض تعرضت بعض المناطق في (حاشد) لقصف الطائرات المصرية التي خربت بيوتاً وقتلت أنفساً بريئة ، وتحولت (خمر) إلى عاصمة جديدة للجمهورية ، وعريناً للمشائخ الجمهوريين والضباط الأحرار الرافضين للسياسات الخاطئة والهيمنة الخارجية ،ورغم انقطاع الدعم الحكومي للجيش الشعبي إلا أن أفراده صمدوا وظلوا يحافظون على المناطق الجمهورية و قامت (خمر) بواجبها في دعم صمود المقاتلين في (صعدة) و(حجة) بما هو مستطاع وأقل من الحاجة وتعرض الصمود الجمهوري بقيادة الشيخ/عبدالله بن حسين الأحمر لمحاولة اختراق من قبل الملكيين الذين جاؤوا إلى (خمر) يحملون الذهب لإغراء (الشيخ) لكنه رفض المساومة ،وأعلن أمام الجماهير رفضه للإغراء والمساومة على النظام الجمهوري والثورة ، وفي جانب آخر استمر (الشيخ) عبدالله يرسل خطاباته ورسائله للقيادة المصرية في صنعاء وللرئيس عبدالناصر في القاهرة للمطالبة بإطلاق سراح زعماء اليمن المعتقلين في السجون المصرية وأولئك المحتجزين في بيوت الإقامة الجبرية، ومن ناحية أخرى  استمرت(صنعاء) تطالب (الشيخ) عبدالله بالعودة إلى صنعاء.

وبعد فترة تراجع المصريون عن موقفهم تجاه (الشيخ) ، وطلب قائد القوات المصرية (طلعت حسن ) مقابلة (الشيخ) في المكان الذي يحدده .. وتم اللقاء في منطقة (جربان) ، ورافق الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر أربعة آلاف مقاتل ملأوا الجبال ، وتم اللقاء وأبلغ الشيخ القائد المصري بما يراد إبلاغه للرئيس عبد الناصر وأهمه : إطلاق سراح زعماء اليمن من السجون المصرية وإعادتهم إلى اليمن مقابل إنهاء المشكلة وعودة (الشيخ) إلى صنعاء ، ويبدو أن القيادة المصرية اكتشفت حينها حقيقة القوى الشعبية المؤيدة للثورة والتي كانت ملتفة حول الشيخ / عبدالله ، وبدأت القاهرة تتخذ عدداً من الخطوات العملية لإنهاء المشكلة مثل إبعاد اللواء/ عبدالله جزيلان من اليمن نهائياً ، وإعادة الدعم الحكومي للمقاتلين المرابطين في ساحات القتال ، كما تم إطلاق سراح بعض المعتقلين في صنعاء ، وإعادة المفصولين من أعمالهم واستمرت هذه المرحلة حتى حدوث هزيمة 67م وخروج المصريين وعودة المعتقلين في القاهرة وقيام حركة التصحيح في 5 نوفمبر 1967م التي جاءت بعهد القاضي/عبدالرحمن الإرياني وبدعم قوي وكامل من تيار الإصلاح والسلام بقيادة الشيخ/عبدالله بن حسين الأحمر.

مراجع إضافية لمزيد من المعلومات :

1.      الرجل الذي أحبه الحرم والهرم بطل الجمهورية الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر،الأستاذ عبدالرحمن طيب بعكر.

2.      الثورة والنفق المظلم الأستاذ عبدالملك الطيب .

3.      التاريخ يتكلم الاستاذ عبدالملك الطيب.

4.      ثمانون عاماً من حياة النعمان عبد الرحمن طيب بعكر.

5.      التطور السياسي للجمهورية العربية اليمنية 1962-1985م جلوفسكا إيليا .

6.      الدور السياسي للقبيلة في اليمن..د.محمد محسن الظاهري .

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp